كل الكلام يتلخص فيك ......أنت !!

أنت الغباء والدهاء نفسه........
أنت الملك وأنت العبد الفقير.........
أنت وحدك من سيقرر المصير .........

Wednesday, October 12, 2011

توفيق الحكيم وادب الحديث مع الله

أ.د/ جابر قميحة

gkomeha@gmail.com



لقد جاء القرآن الكريم ليكون مثلاً أعلى في الآداب الاجتماعية والسياسية والنفسية، فساق نماذج متعددة من "الحوار" بين الأنبياء والرسل من ناحية وأقوامهم من ناحية أخرى، كما أن فيه نماذج أخرى "للحوار" بين الله وعباده من الملائكة والأنبياء والرسل ومنها على سبيل التمثيل:

أ ـ بين الله وملائكته: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ {30} وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {31} قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ {32}) [البقرة: 30 ـ 32].

ب ـ بين نوح وربه: (وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ {45}‏ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ {46} قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ {47}) [هود: 45 ـ 47].

ج ـ بين الله وعيسى: (وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ {116} مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ {117} إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {118}) [المائدة: 116ـ 118].

ومن هذه النماذج ـ وغيرها كثير ـ نجد ملائكة الله وأنبياءه ورسله وهم خير من خلق الله، وهم أحباب الله: أحبهم وأحبوه وأخلصوا له الود والحب والخشية والتوقير، أقول تراهم "لا يرفعون الكلفة، بل يلتزمون حد الأدب في حضرة الله سبحانه وتعالى قولاً وفعلاً بحيث لا تكفي مجرد "النوايا" لأن الأقوال والأفعال هي الكاشفة للنية والتجسيد العملي لها.

على أن حب المخلوق للخالق لا ينفي رهبة المخلوق له وخشيته إياه، يقول سبحانه وتعالى عن الملائكة (يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [سورةالنحل: 50] ويقول تعالى: (فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) [المائدة: 44] ويقول تعالى: (وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) [البقرة: 40] وتوقير الله وتعظيمه ومناصرته هي جوهر الإيمان (إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً {8} لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً {9}‏) [الفتح: 8 ـ 9].

وأعتقد أن القارئ سيوافقني على أن هذه المقدمة الطويلة كان لابد منها وأنا أعرض لما فأجأنا به الأستاذ توفيق الحكيم في جريدة "الأهرام القاهرية في الأول من مارس سنة 1983م بنشر الحلقةالأولى من موضوع سينشر في عدة حلقات تحت عنوان (حديث مع الله) وأنا أكتب هذا المقال مساء السبت (12/3/1983م) بعد أن نشر الأهرام من هذه الأحاديث حلقتين

وفي الحقة الأولى أعطى الحكيم نفسه حقًا لم يبحه لنفسه ملاك أو نبي فقال بالحرف الواحد مخاطبًا الذات العلية ".. خصوصا وحديثي معك سيكون بغير كلفة لا اصطنع فيه الأسلوب الرفيع اللائق بارتفاعك، ولا بالوصف العظيم المناسب لعظمتك، فأنا سأخاطبك مخاطبة الحبيب لحبيبه.. الحب الذي ليس كمثله شيء" .

وأستسمح القارئ أن يرجع إلى النماذج القرآنية التي سقتها بين يدي هذا المقال ، ليرى كيف يتحدث الملائكة والأنبياء إلى ربهم ـ جل وعلا ـ "بالأسلوب الرفيع اللائق بارتفاعه وبالوصف العظيم المناسب لعظمته، وبعد ذلك نكون بين خيارين:

إما أن نؤمن بأن هذا الأسلوب الأمثل في مخاطبة المخلوق للخالق، وإما أن نؤمن أن هذا الأسلوب يتعارض مع منطق الحب ومقتضياته ، فنحــكم بأن الملائكة والأنبياء لا يحبون الله ، أو على الاقل لا يحبون الله الحب الأمثل وأعتقد أننا ـ عقلاً ودينًا ـ لا نملك إلا الإيمان بالمقولة الأولى ، وذلك لا يحتاج إل شرح أو سند أو تبرير.

ونقرأ ما كتب الحكيم فنرى أنه قد جعله حوارًا بين المخلوق والخالق بالطريقة التمثيلية المعروفة ومنه ـ على سبيل المثال:

الله: وبعد.. يا هذا ؟ أطلبت الحديث معي لتكلمني فيما أنا أعلم به منك ؟

المخلوق: أو كان من الممكن أن أحادثك فيما لا علم لك به؟ وأنت يا ربي العظيم العليم بكل شيء .

الله: هل عندك شيء آخر تقوله لي ؟

الملخوق: سئمتَ حديثي يا ربي ؟

الله: أنا لا أعرف السأم.. وأنا السميع دائم السمع للغط مخلوقاتي الكثيرة من أبعد المجرات إلى أصغر الحشرات.

المخلوق: الحشرات ؟

الله: تكلم.

المخلوق: إذا سمحت فلنواصل بمشيئتك الحديث في الثلاثاء بالقادم.

**********

ومن عجب أن يمضي الحوار بين الخالق والمخلوق "على مستوى فني وفكري" واحد حتى ليحس القارئ أن الحكيم يتحدث إلى نفسه بطريقة الحوار الداخلي أو "المفاجأة الذاتية"، ولا فرق بيانيا بين أسلوب الخالق وأسلوب المخلوق، وقد يكون ذلك تطبيقًا عمليًا" لما أخذه الحكيم على نفسه من "رفع الكلفة".

ويفجر الحكيم قضايا كونية ودينية وإنسانية كبرى مثل قضية الإيمان والحساب والدين، والعلم، والإرادة الإلهية ، والجبر والاختيار، وعمومية الرسالة ، وموقف الإسلام من الأديان.. الخ

ويحاول الحكيم أن يحسم هذه القضايا التي شغلت الفقهاء والمتكلمين لمئات من السنين، ويحاول أن يحسمها بكل قوته في كلمات سريعة مكثفة ، ولكن النتيجة التي يخرج بها القارئ هي المزيد من الحيرة والتشكيك.

**********

ولسنا في مقام مناقشة الحكيم فيما أثاره حول هذه القضايا وما أثاره بها فقد نعرض لذلك في مقال آخر ، ولكن الذي يهمنا ابتداء هو "الشكل الفني" الذي شاء الحكيم أن يختاره "لحديثه مع الله" ، وهو "الشكل المسرحي التمثيلي" ، وهو مزلق خطير جدًّا زل إليه الحكيم. فهو لو جاز على البشر فإنه مرفوض بالنسبة لله جل وعلا..وهو حكم لا يحتاج إلى أدلة دينية ، أو عقلية . وبذلك فتح الحكيم بابا لشر مستطير محتمل كلما تصورته أو تخيلته يقشعر منه بدني: فغدا قد نقرأ مقالاً بعنوان "تحقيق صحفي مع الله" ، وليغفر لي الله هذه الجرأة ولو على سبيل التصور أو التخيل ، أقول ما المانع أن يتخيل أحدهم لقاء" من هذا اللون ، ويطرح أسئلة على الذات الإلهية لمعرفة رأي السماء في مشكلة السلفادور، والحرب الدائرة بين إيران والعراق، ومستقبل السوق الأوروبية المشتركة، والشعر الحر، وأيهما على حق اليمين أم اليسار، الخ ويتعدد في الساحة كتاب هذا اللون "الطريف" ، ويدور التنافس على أشده في كسب "التأييد السماوي" لجانب "الأيديولوجية الخاصة" .

أقول : ما المانع ؟ وهل يختلف هذا كثيرا عما فعله الأستاذ الحكيم ؟ أقول ما المانع؟ والباب مفتوح، والفاتح رائد من رواد الأدب، وشيخ من شيوخ الفكر والثقافة ؟ أليس الاقتداء بالرواد منشودًا ومطلبًا مرجوًا ؟.

وثمة ملحظ يلفت النظر: كان العنوان في المقالة الأولى (حديث مع الله) ، وفي الحلقة الثانية (الثلاثاء 8/3/1983م) تغير العنوان وأصبح (حديث إلى الله) وإذا نظرنا إلى العنوانين نظرة تجريدية وجدنا أن الفارق بينهما كبير. إنه فارق نوعي جوهري: فالعنوان الأول يعني "حوارًا متبادلاً بين الخالق والمخلوق" ، والعنوان الثاني يعني "مفاجأة من المخلوق للخالق" ، أي حديثًا من جانب واحد هو جانب المخلوق.

ولكن تغيير العنوان لم يغير من الواقع شيئًا، فظل المضمون تحت العنوان الجديد كما كان تحت العنوان القديم ... حديثًا دائرًا من المخلوق للخالق.

ومع ذلك يبقى لهذا الاختيار الجديد دلالة نفسية ، وهي أن الأستاذ الحكيم بدأ يشعر بالحرج من العنوان الأول الصارخ ، فرجع عن "مع" وأحل مكانها "إلى" ، وقد يؤيد هذا الاستنتاج ملحظان داخليان في المقالة الثانية : الأول أنه لم يعد يسجل اسم الجلالة (الله) في الحوار بل يشير إليه بنقاط هكذا (....) ، فأصبح الحوار يدور على النحو الآتي:

المخلوق: ـ

...... ـ

والملحظ الثاني أن الخلاق لا يقول في الحوار الدائر إلا كلمات قليلة جدًّا .. أغلبها كلمات مفردة في كل مرة مثل (تكلم ـ طبعًا ـ استمر ـ وأخيرًا) ، وهي في مجموعها لا تزيد على أربعين كلمة من المقال الذي لا يقل عن ألف ومائتي كلمة ، ومعنى ذلك أننا لو أسقطنا هذه الكلمات لما خسر المقال شيئا ، بل على العكس لدفع عن الحكيم حرجًا كثيرًا أو ما تبقى من الحرج الكثير، ولأصبح المضمون متفقًا مع العنوان "حديث إلى الله".

ثم لماذا يصر الحكيم على أن يكون "صوت السماء" هو صوت الحكيم وأسلوب "الذات الإلهية" "اسلوب الحكيم نفسه ؟ هل فات الحكيم أن هناك ـ غير البيان القرآني ـ ذخيرة ضخمة من الأحاديث القدسية ؟ وكان يمكنه ـ ما دام حريصا على الحوارـ أن يجعل "صوت السماء" الذي يشترك معه في الحوار ملتزمًا حرفية القرآن الكريم والأحاديث القدسية، تبعًا لمقتضيات الحال ومقتضيات الموقف والتصورات، وبذلك يحفظ للبيان السماوي إعجازه ورواءه ، دون أن يتلبس ذلك بأسلوبه الخاص.

وأين من البيان الإلهي المعجز قول توفيق الحكيم (على لسان الله مخاطبًا المخلوق )"قل على لساني ما تشاء، وأنت تعلم أولاً أنه ليس لسان مثلكم، ولكن انسب وتخيل وألف ، على أن يكون ذلك كله على مسئوليتك، وتحاسب عليه يوم الحساب.. فهمت ؟".

وأقول: جل بيان الخالق وتنزه عن مثل هذه اللغة التي تذكرنا بلغة الدواوين والمصالح الحكومية، ولا يعفي الحكيم من اللوم والمؤاخذة أن ذلك كان مجرد تخيل وتصور.

ولكن الاعتراض يبقى قائمًا في مواجهة توفيق الحكيم حتى لو جعل كل ما تقوله السماء لايتعدى نطاق القرآن والأحاديث القدسية ؛ فالقالب "الحواري المسرحي" لا يليق بعظمة الله وقدسيته وجلاله.

**********

وقد يدافع عن الحكيم بأنه استخدم "الشكل الحواري التمثيلي" في مسرحيته "محمد" التي نشرها في فبراير سنة 1936م وقد استقبلت استقبالاً طيبًا، وممن أثنى عليها وأحسن استقبالها الكاتب الإسلامي الكبير مصطفى صادق الرافعي (مجلة الرسالة في 10 فبراير 1936م).

ولكن يبقى القياس مع الفارق الكبير:

ـ فمحمد بشر وليس إلهًا "قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلي أنما إلهكم إله واحد" (الكهف 110 ) .

ـ والكلام الذي جرى على ألسنة الشخصيات وعلى رأسهم محمد ـ عليه الصلاة السلام ـ كلام تاريخي ، وردت نصوصه ـ كما قال الحكيم نفسه ـ في كتب معتمدة هي على سبيل المثال: سيرة ابن هشام وتفسيرها للسهيلي، وطبقات ابن سعد،والإصابة لابن حجر، وأسد الغابة لابن الأثير، وتاريخ الطبري، وصحيح البخاري، وتيسير الوصول، والشمائل للترمذي وتفسيره للبيجوري".

أى أن الحكيم استطاع أن يطوع طاقاته الفنية لخدمة "الواقع الإسلامي المحمدي" ، فتعمق تاريخ هذه الفترة، واستخلص منها الحوار التاريخي كما هو، واستطاع بحاسته الفنية أن يصل هذا الحوار الواقعي بعضه بالبعض الآخر، وغير ذلك من الحوار المخترع كان تمثلاً شبه حرفي للواقع: واقع الشخصية بأبعادها المختلفة، وواقع الموقف، وواقع القواعد الإسلامية وروح الدين الإسلامي، فجاء "صوت الفن" متسقًا مع صوت الدين.

ولعل النموذج الحواري الآتي يؤيد ما ذكرناه ( وكان ذلك أيام الخندق) .

محمد: نعم إن العرب ترمينا الآن عن قوس واحدة.

عمر: وما الرأي؟

محمد: ايها الناس اشيروا علي "سلمان الفارسي يتقدم"

سلمان: يا رسول الله، إن عندي رأيا.

محمد: قل يا سلمان.

سلمان: نجعل حول المدينة خندقًا.

عمر: خندقا؟

سلمان: إنا معشر الفارسيين كنا إذا دهمنا عدو خندقنا على أنفسنا.

محمد: "يفكر قليلاً" نعم الرأي.. اضربوا الخندق على المدينة.

فلم يرد في كتب التاريخ هذا الحوار بنصه ولكنها أجمعت على أن "سلمان الفارسي أشار على النبي بحفر خندق حول المدينة ؛ ليحميها من إغارة الأحزاب ، فأخذ النبي بفكرته، وترجم الحكيم هذه "الواقعة" إلى حوار لا يخرج عن أبعادها، وهذا غير ما نقله الحكيم بنصه من المصادر التاريخية التي ذكرها.

وهذا "الالتزام" يجعل عمل الحكيم يختلف اختلافا كبيرا عن المسرحيات الثلاث التي كتبها ادمون فلج Edmond Fleg عن "إبراهيم" و"موسى" و "سليمان" حيث نجد أنها أقرب إلى "الفن التشخيصي المتحرر" منها إلى العمل التاريخي الملتزم.

وإذا كان الحكيم قد طوع طاقته الفنية لخدمة الواقع التاريخي الإسلامي في فترة معينة، فإنه فعل العكس في حديثه مع الله ، أو إلى الله ، فحاول أن يطوع الحقائق والقضايا الكونية الكبرى لفنه وفكره الخاص ، فركب مركبًا صعبًا ، وضرب في مزالق خطيرة خطيرة جدًّا.

وقد يقول قائل: فما بالك بالصوفية وقد سبقوا الحكيم إلى مثل ذلك ، بل إلى ما هو أكثر من أحاديث الحكيم ؟

وأقول ابتداء إن الحكيم لا يزعم لنفسه أنه صاحب "حالات" أو "مقامات" ، وإذا كان للصوفية، "شطحات" تتعارض مع قواعد ادين وروحه فهي مرفوضة شرعا وعقلا ، ولا يجوز اتخاذها مثلا يحتذى، ولكن لفريق آخر من الصوفية إشراقات عرفانية، ومن أشهر أصحاب هذه الإشرافات أبو عبد الله محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري (ت 354هـ ـ 965م) في كتابيه "المواقف والمخاطبات" . ولكن عمله يختلف عن أحاديث الحكيم من ناحيتين:

الأولى: أن ابن عبد الجبار جعل من نفسه "متلقيًا" لكلمات الله وإشراقاته وفيوضه ، ولم يجعل ذلك على شكل حوار منتظم مطرد كما فعل الحكيم.

الثانية: ما اتسم به أسلوب ابن عبد الجبار من عظمة ورفعة وجلال وعمق وقوة إيحاء ، وهذا يختلف عن أسلوب الحكيم الذي يكاد يقترب من أسلوب الحديث الدارج العادي.

وأخيرًا ماذا يكسب الفن والأدب بإيثار توفيق الحكيم الشكل التثميلي الحواري في حديثه مع الله ؟... لا شيء، فالدرامية لا مكان لها، وحرية التصرف الفني محدودة في هذا المجال، نعم لا شيء أكثر من أن الحكيم أحرج نفسه وأحرج غيره، وعمليا فتح الباب ـ كما ذكرت سابقا ـ لأقلام تفتقر لحسن النية ، لتجري "حوارات" و "لقاءات" وتقول.. وتقول.

وإن كان لي من كلمة في النهاية فإني كنت أتمنى أن يكون "حديث الحكيم : إلى الله" وليس "مع الله" ، ومن طرف واحد فقط، حتى يتسق العنوان مع المضمون، نعم ليتكلم العبد المخلوق توفيق الحكيم إلى الله، بنية طيبة وقلب نقي وأسلوب يليق بمقام الألوهية، وإنه لمقام عظيم جد عظيم।





_المصدر:

http://www.odabasham.net/show.php?sid=२५७५८


No comments:

Post a Comment